بسم الله الرحمن الرحيم
قبل الخوض في تحليل البيانات وشرح مبادئ بعض التقنيات, أظن أنه من الأولى كتابة مقال عن مبدأ عمل الخلية و أهم مكوناتها لتمكين القراء, خاصة ذو تخصصات غير مجال الأحياء أو العلوم الطبيعية و المهتمين بهذا المجال من الحصول على صورة عامة وفهم المقالات القادمة إنشاء الله.
كما هو معروف أن الخلية تمثل الوحدة التركيبية والوضيفية في الكائنات الحية, فصِحة الإنسان من صحة خلاياه وأن أي خلل في عمل الخلية ,إذا لم يتم تداركه من طرف الجسم, يؤدي إلى حدوث أمراض قد تكون فتاكة كالسرطان مثلا. لضمان هذا التناسق تحتوي الخلية على مجموعة من المكونات التي تعمل بطريقة منظمة تسمح بإنتاج المواد الضرورية لبقاء الخلية وتصليح أية أخطاء إذا وجدت.
تصنّف الكائنات الحية على حسب مكونات خليتها إلى عائلتين كبيرتين: الكائنات بدائية النواة (Prokaryote), وهي كائنات تكون في العادت ذات خلية واحدة وبسيطة من حيث تركيبها. والنوع الثاني هو الكائنات حقيقية النواة (Eukaryote) وهي كائنات ذات خلايا أكثر تعقيدا وتنظيما.
رسم تخطيطي يبين الفرق البنيوي بين الخلايا بدائية النواة و حقيقية النواة (المصدر)
الإختلاف الواضح بين هذين النوعين هو أن الخلايا بدائية النواة لاتحتوي على نواة لكن تحتوي على شئ شبيه يسمي النوواني (nucleoid) حيث يتجمع فيه الحمض النووي ونلاحظ أيضا أنه لا توجد خلايا ميتوكندريا في بدائيات الخلية و بعض المكونات كجهاز كولجي وغيره.
ليستمر كلا النوعين في البقاء عليهما أن يقوما بإنتاج بروتينات و أنزيمات (نوع من البروتين يعمل لتسهيل بعض التفاعلات الكيميائية) من أجل الحصول على الطاقة, بناء الأغشيه, الدفاع عن الخلية وغيره من النشاطات. ونظرا لتعدد الوظائف فإن الخلية الواحدة تحتوي على آلاف من أنواع البروتينات. لكن مدة نشاط البروتين الواحد لا تدوم إلى الأبد فبنيته تتعرض للتغير والإنحلال بعد مشاركته في التفاعلات الكيميائية المختلفة, لهذا وجب على الخلية أن تحتفض بمعلومات عن كيفية إعادة صناعة هذا البروتين في مكان ما لإستعمالها عند الحاجة إليها وهذا المكان هو الحمض النووي أو DNA.
يتكون الحمض النووي من سلسلتين متوازيتين و متكاملتين على شكل سلم لولبي وتسميان في العادة سلسلتا كريك و واتسون نسبتا إلى العالمان الذين إكتشفا هذه البنية. وفي مجال المعلوماتية الحيوية أو البيولوجيا الحاسوبية (لانفرق بينهما هنا) يرمز لهما بالرمز + بالنسبة إلى سلسلة كريك و الرمز - بالنسبة لسلسة واتسون. ولأن السلسلتان مكملتان لبعضهما البعض فإنه يتم فقط تخزين واحدة منهما (في عادة السلسلة +) لأننا نعلم أن A يقابلها T و G يقابلها C. لوكتبنا سلسلة واحدة من الحمض النووي للإنسان في ملف نصي (txt) على شكل تتبع حروف G,C,T,A فقط بدون أية إضافات فسوف نتحصل على ملف بحجم 3.3 جيغابيت.
لان حجم الحمض النووي كبير (طوله في خلية إنسانية واحدة حوالي 2 متر) يتم ضغطه,ففي خلايا الإنسان مثلا يتم تقسيم الحمض النووي إلى 23 جزءا تسمى الصبغيات أو الكروموزمات. تكون هذه الكرموزومات مضغوطة في النواة ويتم فقط فتح الأجزاء التي تحتوي على شفرات البروتينات التي تحتاجها الخلية. ونظرا لتنوع الخلايا في جسم الإنسان فإن الأجزاء المفتوحة والمغلوقة تختلف من نوع خلوي إلى آخر, فمثلا خلايا العين ننتج بروتينات لها علاقة بإستقبال الضوء وتحويله إلى إشارات كيميائية و خلايا الشعر تقوم بتفعيل الأجزاء التي تسمح لها بإعطاء الشعر لونه وشكله على الرغم من أن كلاهما يحتوي على نفس الحمض النووي.
رسم توضيحي لبنية الحمض النووي (يمين) و الRNA الرسول (شمال) (المصدر)
يتم تخزين المعلومات حول تركيبة البروتينات في أجزاء من الحمض النووي تسمى بالجينات حيث يتم أولا نسخ الجين إلى RNA بحيث يحتوي ال RNA على جزيئات قاعدية متتمة للجزيئات القاعدية المكونة للجين إلا أنه يتم إستبدال T بالـ U , تسمى هذه العملية بالنسخ (Transcription). يقوم بهذه العملية مجموعة من البروتينات, المجموعة الألى تتمثل في عوامل النسخ (Transcription Factor) حيث تقوم أولا برصد بداية الجين في الحمض النووي وتقوم بهيأة المكان حيث تفتح الروابط الهيدروجينية بين السليلتين وتسهل قدوم مجموعة أخرى من البروتينات تسمى آليات النسخ (Transcriptom) و المتمثلة آساسا في ال أر أن أي بوليمراز 2, وهو عبارة عن بروتين كبير يقوم بقراءة الجمض النووي وتحويله إلى RNA.
رسم تخطيطي يوضح أنواع البروتينات المشاركة في عملية النسخ (مجلة Nature الإصدار العربي أكتوبر 2012)
بعد تشكيل الـ RNA الرسول, ينتقل هذا الأخير إلى خارج النواة ليتم تحويله إلى بروتين من طرف الريبوزمات. تسمى عملية قراءة محتوى ال RNA وتحوليه إلى بروتين بعملية الترجمة (Translation). في هذه العملية يتم تحويل كل ثلاثة أجزاء قاعدية إلى حمض أميني (Amino Acid), يقوم الريبوزم بقراءة الـ RNA وتكوين سلسلة من الأحماض الأمينية و التي تشكل ما يسمى بالبروتين أو الببتيد (في العادة الببتيد هو سلسلة من الأحماض الأمينية لكن أقصر من البروتين).
لوقمنا بعملية حسابية بسيطة سنجد أنه يمكننا إنتاج 64 (4 * 4* 4) نوعا من الشفرات بحيث تكون كل شفرة مكونة من ثلاث قواعد جزئية بإستخدام C,G,T,A, لكن من المعروف أن البروتينات تتكون فقط من 20 نوعا من الأحماض النووية فكيف يتم ترجمة 44 شفرة الأخرى؟ إكتشف العلماء أنه يوجد نوعان من الشفرات: النوع الأول يترجم إلى حمض أميني ويمكن أن يكون عدة شفرات تترجم إلى نفس الحمض الأميني, و النوع الثاني هي شفرات تستعمل لتحديد من أين تبدأ وأين تنتهي الترجمة. تسمى كل شفرة بالكودون (Codon) وتختتلف هذه الكودونات بين الكائنات إختلافا طفيفا.
مثال لجدول الكودونات في خلايا الإنسان (المصدر)
لاحظ العلماء أن عدد البروتينات التي يمكن أن تنتجها الخلية أكثر من عدد الجينات الموجودة, كما أن سلسة الـ RNA الرسول (mRNA) خارج النواة تحتوي فقط على أجزاء من الجين. توصل العلماء أن عملية النسخ تكون على مرحلتين: في المرحلة الأولى يتم نسخ سلسة الجين كليا على شكل RNA أولي, ثم بعدها يتم نزع أجزاء من هذا الـ RNA الأولي من أجل تشكيل الـ RNA الرسول وذلك بمساعدة بروتينات آلية القطع (Spliceosome). تسمى الأجزاء التي يتم قطها بالإنترونات (Intron) والأجزاء التي يتم الإحتفاض بها بالإكسونات (Exon) .
بهذه الطريقة يمكن لجين واحد أن ينتج عدة أنواع من البروتينات, فمثلا إذا كان جين يحتوي على ثلاثة إكسونات يمكنه إستعال الإكسون الأول والثاني من أجل إنتاج بروتين و الإكسون الأول و الثالث من أجل إنتاج بروتين آخر. يقال لكن من هذه المتغيرات بالأيزوفورم (Isoform).
رسم توضيحي لمبدا التقطيع من أجل إنشاء برونيات مختلفة من جين واحد (المصدر)
في الفقرات التي سبقت نوهنا أن حجم النووي كبير وأنه يصل طوله لوفتح كليا إلى حوالي مترين أوأكثر بقليل ومع العلم أن جسم الإنسان يحتوي على حوالي 50 ترليون خلية يعني أن الإنسان الواحد يحتوي في جسمه على حوالى 100 ترليون متر (2 *50) ,أي حوالي المسافة بين الشمس والأرض 300 مرة, فكيف تمكنت الخلية من ضغط الحمض النووي في هذه المساحة التي لاتتعدى 10 ميكرونات؟
لوطلب منا أحد أن يلف خيطا بطول مترين ووضعه في مكان صغير لقمنا في أغلب الحالات بتجميعه على شكل كرة. تتبع الخلية نفس المبدأ, حيث تلف كل 146 جزيئ قاعدي (دورة ونصف) حول ثمانية بروتينات تشكل كتلة كروية تسمى بالنكليوزوم (Nucleosome) تلتم هذه النكليوزومات مع بعض لتشكل كتلة أكثر صغطا وهذه الكتل تلتم أيضا وتشكل كتلا أكثر ضغظا وهكذا دواليك إلى أن يتم ضغظ الحمض النووي في شكل كروموزمات. لكن المشكلة أن البروتينات التي تشارك في عملية النسخ لا يمكنها الولوج إلى الأماكن المضغوطة وبالتالى لا يمكن للخلية إنتاج البروتينات.
يمكن تفادي هذا المشكل بإستغلال بنية البروتينات المكونة للنكليوزوم و المسمات بالهستونات, كما هو موضح في الشكل يحتوي كل هستون على ذيل يمكن من خلاله التحكم في شكل الهستون وكيفية إرتباطه بالحمض النووي, فيمكن للخلية أن تقوم بفتح وغلق الأماكن الضرورية لعملها. وبما أن كل خلايا الجسم تحتوي على نفس الحمض النووي إلا أن الإختلاف يكمن في المناطق المفتوحة في كل خلية وبالتالي على نوع الجينات المنشطة و المثبطة في كل خلية.
يسمى هذا النوع من التحكم في نشاط الخلية بالوراثة الاجينية ( أو الترجمة الحرفية : "مافوق الجينوم") (Epi-genome) حيث أن العلماء ظنوا لفترة طويلة أن أي إختلاف في النشاط يجب أن يكون نابعا من إختلاف في سلسلة الحمض النووي, إلا أنه في هذه الحالة لايوجد إختلاف في الحمض النووي لكن فقط في كيفية تنظيمه.
رسم تخطيطي يوضح كيفية ضغط الحمض النووي ومفهوم ال epi-genome (مجلة Nature الإصدار العربي أكتوبر 2012)
وفي الأخير أتنمى أن يكون هذا المقال مفيدا خاصة للقادمين من مجالات غير مجال الأحياء فقد حاولة كتابة فقط الأجزاء المهمة وعدم التعمق في التفاصيل من أجل إعطاء صورة شاملة مختصرة.
رابط المقالة : المعلوماتية الحيوية بالعربية » مختصر عن عمل الخلية