بسم الله الرحمن الرحيم,
يمثل عالم الكائنات الحية الدقيقة أحد اللبنات الأساسية التي تساهم في التوازن البيئي نظرا للدور المباشر أو غير المباشر الذي التي تلعبه في السلسلة الغذائية لمختلف الكائنات الحية كما أنها تلعب دورا مهما في تحليل وتصنيع بعض المواد الكيمائية. يمكن لهذه الكائنات التأقلم مع مختلف البيئات حيث لايوجد مكان تقريبا يخلو منها.
تتبع الكائنات الحية الدقيقة طرقا عديدة من أجل التأقلم حيث تتعاون فيما بينها بطريقة متكاملة من أجل توفير وسط معيشة ملائم, وان اقتضى الأمر يكن لها أن تتبادل الجينات مع بعضها البعض. نظرا لهذه الخائص, اهتمت طائفة من العلماء بدراسة هذه الكائنات لمعرفة خصائصها الجينية من جهة و لدراسة مدى تأثير تنوعها البيولوجي على الاوساط الطبيعية. تساعدنا نتائج هذه الأبحاث على عدة مستويات, فمثلا يمكننا تطوير تقنيات تسمح لنا مثلا بتصفية المياه الملوثة أو تحسين نموا النباتات,... إلخ. مع تطور تقنيات البيولوجيا التخليقية استطاع العلماء استعمال البكتيريا في المجال الصناعي كصناعة البلاستيك و الوقود البيولوجي باستعمال بكتيريا معدلة جينيا.
مما ربما مايستغربه الناس هو أن للبكتيرا دورا مهما في جسم الانسان, حيث يشكل مجموع الخلايا البكتيرية في جسم الانسان عشرة أضعاف خلايا الجسم, تتمركز أساسا في الجلد, المعدة, الفم و الاعضاء التناسلية. يبدأ الانسان في اكتساب هذه الميكروبات مع أول ساعات الولادة حيث تنتقل إليه عن طريق الأم وبعدها تكتسب من الوسط الخارجي وبالاحتكاك مع الناس. نظرا للدور التكميلي الذي تلعبه هذه التجمعات البكتيرية يطلق عليها تسمية "الجينوم البشري الثاني".
صورة لبكتيريا معدلة وراثيا تقوم بانتاج بولستر يمكن استعماله لتصنيع بلاستك يتحلل حيويا (مصدر الصورة)
يعود أول اكتشاف للبكتريا سنة 1663 من طرف اطوني فان ليفينهوك الذي كان مولعا بتصميم الميكروسكبات على الرغم من أنه لم يستطع تفسير مارأه, ثم عاد ظهور هذا المجال في القرن الـ 19. لكن أغلبية المعرفة التي اكتسبت حول الكائنات الدقيقة كانت في "المختبر" وليس في وسطها الطبيعي اين تتفاعل مع فصائل متعددة. بالإظافة إلى ذلك, يصعب استنبات أغلبية الفصائل البكتيرِّيا في غير وسطها الطبيعي (يمثل اجمال ماتم دراسته 1% من العدد التقديري للبكتيريا). لهذا الغرض تم تطوير مجال الميتاجينومكس (meta-genomics) الذي يهتم بدراسة التجمعات البكتيرية على أساس أنها بنية واحدة دون الحاجة إلى الاستنبات الفردي لمختلف أفرادها.
مجال الميتاجينومكس (Meta-genomics):
مجال الميتاجينومكس هو عبارة عن مجموعة التقنيات والأساليب لتحليل الجينومات المتواجدة في تجمع بكتيري دون الحاجة إلى استنبات عناصره بطريقة متفرقة. يعتبر هذا المجال تزاوجا بين علم الأحياء الدقيقة (Micro-biology) وعلم الجينوم (Genomics) ويعود الفضل في ذلك إلى تقنيات السلسلة. على عكس الطريقة الكلاسيكية المتبعة في علم الأحياء الدقية التي تعتمد على دراسة الجزء لفهم الكل, ينتهج علم الميتاجينومكس الطريق الآخر حيث يهتم بفهم لتصرف البكتيريا في المجتمع بالاجابة عن الأسئلة: "مَنْ هُنَا؟" عن طريق تحديد الجينات المتواجدة في العينة و "ماذا يفعلون ؟" عن طريق تحديد مجموعة النسخومات (Transcriptomics) والبروتينات و "ماهي العلاقة بينهم؟" وذلك بتحديد السلالة.
يستخدم الباحثون في العادة طريقتين: طريقة سلسلة الـ RNA الريبوززمي S16 وطريقة السلسة الكاملة للجينوم عن طريق التقطيع العشوائي (Whole-genome shotgun sequencing).
رسم تخطيطي يوضح أهم مراحل تطور علم الأحياء الدقيقة (المصدر)
1) طريقة سلسلة الـ rRNA S16:
تعتبر هذه الطريقة المفتاح الذي تمكن به العلماء من الولوج إلى علم الميتاجينومكس, ويعود الفضل في ذلك إلى العالم الأمريكي كارل وويس الذي أثبت أن صيغة جينات الـ RNA الريبي كافية لتصنيف الميكروبات. حيث قام بتقدير عدد الفصائل الموجودة في عينة عن طريق تصنيف الجينين S5 و S16. مع تطور تقنية تفاعل البوليميراز التسلسلي (PCR) و ظهور آلات الجيل الثاني للسلسلة تمكن العلماء من دراسة التنوع البكتيري على نطاق واسع وبتكاليف أقل في وقت أسرع.
يتميز الجين S16 rRNA بأنه يتكون من نوعين من السلاسل, سلاسل ثابة نسبيا مشتركة بين السُلالات (ممثلة باللون البرتقالي في الرسم) و سلاسل متغيرة تختلف من سُلالة إلى اخرى(ممثلة بالخط الأسود في الرسم). تستعمل المناطق الثابتة لتصميم بوادئ الـ PCR, لكن بما أن طول الجين S16 حولي 1500 زوج قاعدي, لا يمكن تضخيمه كليا في حالة استعمال آلآت الجيل الجديد للسلسة حيث أن أطول سلسلة يمنكنا سلسلتها يصل إلى 400 زوج قاعدي باستعمال آلات روش 454. في حالة استعمال طريقة سنغر للسلسلة يمكننا السَلسلة الكلية للجين, لكن نظرا لبطئ هذه الطريقة وتكاليفها لا يتم استعمالها.
تختلف المعلومات المتحصل عليها على حسب المناطق المضخمة, فاذا كانت المنطقة المضخمة ثابتة نوعا ما في العينة المدروسة لا يمكننا القيام بتصنيف دقيق للتنوع البكتيري في العينة مما يعتبر احد عوائق هذه الطريقة على الرغم من أن علما قاموا بتصنيع المناطق وقاموا باعطاء ارشادات.
رسم تخطيطي يوضح بنية الجين الريبوزومي S16 و طرق تظخيمه باستعمال الألات المختلفة(المصدر)
لاتزال طريقة سَلسة الجين S16 تلاقي رواجا لحد الآن بسبب نقص تكاليفها ولوجود قواعد بيانات تحتوي على سلاسل الـ S16 لمختلف السلالات كقاعدة SILVA, greengenes و RDP. لكن من بين سلبيات هذه الطريقة هو انها لا تمكننا من دراسة التنوع الجيني في العينة وبالتالي لا يمكننا القيام بالدراسة الوظيفية للمجتمع البكتيري وتحديد المواد التي يمكنه انتاجها.
1) طريقة السلسلة عن طريق التقطيع العشوائي: تعتمد طريقة السلسلة الكاملة للحمض النووي عن طريق التقطيع العشوائي على سلسلة كل الجينومات المتواجدة في العينة دون التركير على جزء معين من الجينوم فقط, حيث يتم استخلاص خليط يحتوي على الحمض النووي للكائنات الدقيقة الموجودة في العينة ومن ثم سلسلته.
من بين ايجابيات هذه الطريقة هو التمكن من الدراسة الوظيفية للمجتمع البكتيري, حيث أنه وبتشخيصنا للجينينات الموجودة يمكننا استنباط الوضائف التي تقوم بها البكتيريا. من جهة اخرى توجد عدة تحديات من جانب تحليل البيانات حيث أن السلاسل المتحصل عليها تمثل خليطا من السلاسل القادمة من عدة فصائل بكتيرية, فيجب أولا القيام بعمليات تصنيف للسلاسل وتحديد السلاسل القادمة من نفس الجينوم من ثم تحديد مناطق بدأ الترجمة (TSS) لكن جين ومن بعدها يمكن دراسته.
تختلف الطريقة المستعملة على حسب أهداف الدراسة وعلى حسب التمويل, فطريقة سلسلة جين الـ S16 تتناسب من المشاريع ذات المهتمة بدراسة الفصائل المعروفة وبسعر مقبول أما طريقة السلسلة الكاملة للحمض النووي تتناسب مع المسائل التي تهتم بالدراسة الوظيفية للتجمع االبكتيري وتسمح بمجال اكبر للبحث لكن في المقابل تحتاج إلى ميزانية عالية ومهارة عالية في تحليل البيانات.
خطوات دراسة الميتاجينوم
في العادة تتبع الخطوات التالية أثناء القيام بتحليل بيانات الميتاجينوم:
رسم بياني يوضح أهم المراحل في دراسات الميتاجينوم
تحضير العينات واستخلاص الحمض النووي
تعتبر هذه المرحلة مرحلة مرحلة أثناء القيام بدراسة الميتاجينوم, حيث أن نجاحها يضمن التوصل إلى نتائج جيدة. تهدف هذه المرحلة إلى استخلاص عينة خالية من الشوائب تحتوي على سلاسل الكائنات الحية الدقيقة المتواجدة في الوسط الذي نحن بصدد دراسته بكمية كافية للقيام بعملية السلسة. بما أن الكائنات الحية تعيش في معظم الاحيان في جسم مضيف يجب التأكد من أن العينة خالية بقدر الامكان من خلايا الجسم المضيف (مثلا الانسان). يجب التاكد أيضا من ان كميات الحمض النووي المستخلصة كافية للقيام بعملية السَلسلة, مثلا في أوساط مثل المياه الجوفية تحتوي العينات على كميات قليلة من الكائنات الدقيقة. يمكن تجاوز هذا الحاجر باستعمال طرق التظخيم لكن يجب التأكد من عدم ادخال بعض من عدم التوازن في نسبة سلاسل الفصائل الموجودة في العينية بحيث يضخم الحمض النووي لسلاسلة أكثر من الآخرين مما يؤدي إلى اخطاء في تقدير تنوع ونسبة الفصائل.
السَلسلة
لاقت آلات الجيل الجديد للسَلسلة رواجا كبيرا في مجال الميتاجينومكس حيث أنها تسمح بربح الكثير من الوقت وتحليل كمية كبيرة من الحمض النووي خلافا لطريقة سانغر. لكن بما أننا في هذا النوع من الدراسات نريد اكثشاف سلاسلات جديدة لا يمكننا الاعتماد كليتا على شفرات الجينومات المرجعية للكائنات المعروفة, لهذا في العادة نريد الحصول على سلاسل طويلة وبالتالي تفادي وجود سلاسل متشابهة في العينة مما يصعب عملية تحديد السلالات الموجودة في العينة.
من الآلات المستعملة بكثرة هي آلات روش 454 نظرا لكلفتها المنخفظة و طول السلاسل التي يمكن الحصول عليها حيث يمكن أن يصل طولها إلى 600 زوج قاعدي. من ميزات روش 454 أنها تحتاج إلى كميات قليلة من الحمض النووي. في الجهة الأخرى نجد آلات شركة إلومينا التي ورغم قصر السلاسل التي يمكن أن تسلسلها (250 زوج قاعدي ) إلا أن أنها تتميز بدقتها وتكاليف أقل من 454. يتم اختيار التكنولوجيا المستعملة علة حسب نوع الدراسة.
التجميع
في العادة نقوم بهذه العملية في الدراسات التي تهدف إلى اكتشاف سلالات جديدة وتحديد جيناتها. الهدف من هذه المرحلة هوتجميع السلاسل التي تحتوى على مناطق متشابهة وتحويلها إلى سلاسل أطول على أمل أن نتحصل إلى السلسلة الكاملة للجينومات الموجودة في السلالسة. توجد عدة مصاعب أثناء هذه العملية حيث أن جينوم البكيتيريا يتغير بسرعة. حيث تفقد مناطق بأكملها أو تضاف أخرى مما يصعب في بعض الأحيان تجميع سلاسلة البكتيريا من السلاسلة الواحدة مما يحد من عدد السلاسل التي يمكن تجميعها.
صممت عدة خوارزميات للتقليل من الاخطاء وتحديد عدد السلالات الموجودة بدقة لكن لم تصل إلى مستوى المثالية لحد الآن.
تقسيم السلاسل
تهدف هذه المرحلة إلى تصنيف السلاسل المتشابهة إلى مجموعات. تمثل كل مجموعة وحدة تصنيفية فعالة (Operational taxonomic unit أو OTU اختصارا). لا يوجد تعريف دقيق للمجموعات التصنيفية الفعالة, حيث يمكن أن تمثل فرد, نوع أو سلاسلة. يعتمد التصنيف على المستوى الذي يريده الباحث. صممت عدة خوازميات للقيام بعملية التقسيم حيث أنها تأخذ بعين الاختبار عدة خصائص كنسبة سلاسل الـ GC ووفرة شفرة من الشفرات ذات طول محدد (k-mer) ... إلخ.
شرح الميتاجينوم (Metagenome annotation)
تهدف هذه المرحلة إلى تحديد اماكن الجينات في الجينومات التي تم تجميعها. تعتمد الخوارزميات المصممة في حساباتها على عدة معلومات حيث تحاول تحديد الكودونات وتحديد المناطق المشفرة للبروتينات وذلك عن طريق المقارنة مع قواعد البيانات المتوفرة ومحاولة ايجاد المناطق المشابهة. من الجانب البرمجي تعتبر هذه المرحلة من أصعب المراحل حيث تقدر نسبة الدقة في تحديد الجينات بصفة صحيحة من 20% إلى 50%. تستعمل هذه المعلومات لتحديد المسارات الأيضية في كل OTU لمحاولة معرفة الوضائف الحيوية التي تقوم بها هذه الكائنات وتحديد علاقات التعاون بينهم.
يمكن تلخيص هذه المراحل في الرسم التالي
في الاخير أتمنى أن يكون هذا المقال مفيدا للمهتمين بهذا المجال على الرغم من الكثير من الاختصارات. وفي الأخير أترككم مع هذا الفيديوا الذي يبين دور البكتيريا في جسم الانسان
مصادر:
- Jo Handelsman, Metagenomics: Application of Genomics to Uncultured Microorganisms, Microbiol. Mol. Biol. Rev. 2004 68:669-685
- National Research Council (US) Committee on Metagenomics: Challenges and Functional Applications. The New Science of Metagenomics: Revealing the Secrets of Our Microbial Planet. National Academies Press (US); 2007. 1, Why Metagenomics? Available from: http://www.ncbi.nlm.nih.gov/books/NBK54011/
- Torsten Thomas et al, Metagenomics - a guide from sampling to data analysis, Microbioal informatics and experimentation, 2012.
- Justin Kuczynski et al, Experimental and analytical tools for studying the human microbiome, Nature Reviews Genetics 13, 47-58, 2012
رابط المقالة : المعلوماتية الحيوية بالعربية » مجال الميتاجينومكس